سلسلة دروس شرح كتاب: (قانون صفات الخيل العربية) للأستاذ: عبد العزيز القرشي
رقم الدرس: ٣
يعني العِتْق عند العرب: سلامة الفرس العربي من الهُجْنة؛ كما قال الجاحظ (ت ٢٥٥هـ): “أما قولهم: كريم وعتيق فإنما يريدون أن يُبْروه من الهُجْنة والإقْراف”. والهُجنة: هي دخول دماء خيل غير عربية، على دماء الخيل العربية، فينتج من هذا التزاوج جنسٌ مُهَجَّن؛ يطلقون عليه تارة اسم (الهجين) إذاكان الفساد من جهة الأم، واسم (المُقْرِف) إذا كان الفساد من جهة الأب؛ كما قال ابن قتيبة (ت ٢٧٦هـ): “الهُجنة إنما تكون من قِبل الأم، فإذا كان الأب عتيقا، والأم ليست كذلك كان الولد هجينا، وإذا كانت الأم من العِتاق، والأب ليس كذلك كان الولد مُقْرِفًا”. ومعنى الإقراف في اللغة: المداناة، أي أن الفرس اقترب من الهجنة من هذه الجهة، فالإقراف في الحقيقة هو الهُجنة، ولا فرق بينهما في المعنى.
ومن أجل حماية السلالة العربية من الهُجنة؛ وضع العرب مصطلح العِتْق سياجا يحمي جنس الخيل العربية، من الاختلاط بغيرها من أجناس الخيل الأخرى. وأقاموا هذا السياج على دعامتين مجتمعتين؛ لا تغني إحداهما عن الأخرى، وهما: ثبوت النَّسَب + السلامة من صفات الهُجنة، كما قال أبو عبيدة: “ويُستَحب من الخيل، أن يكون الفرس عَتيقًا عَريقًا جَسيمًا معروف الآباء والأمهات، منسوبًا سليمًا من الهُجنة”؛ وكما هَجَّن سلمانُ بن ربيعة الباهلي، فرسَ عمرو بن معد يكرب -في القصة المشهورة- عندما ظهرت له صفةُ الهُجنة فيها، فلم يشفع لها نسبُها -الذي كان يفتخر به عمرو- عند سلمان.
وبناء على هذا المِعيار للعِتْق، قسّم العرب الخيل إلى ثلاثة أصناف: العتيق؛ وهو الذي ثبت نسبه وخلا في ذاته من صفة الهجنة. والهجين؛ وهو الذي ظهرت فيه صفة الهجنة حتى لو كان نسبه ثابتا. والخارجي؛ وهو الذي خلا في ذاته من صفة الهُجنة ولم يثبت نسبه؛ كما قال الخليل بن أحمد (ت ١٧٤هـ): “والخارجية خيل لا عِرْق لها في الجودة، فتخرج سوابقا”، وكما قال ابن الكلبي (ت ٢٠٤هـ): “وكان من سوابق أهل الشام، من الخارجية التي لا يُعرف لها نَسَب: القطراني، والأعرابي، فرسا عباد بن زياد”.
وإذا تجلّى لنا معنى العِتْق عند القدماء، فما علاقته بدائرة الاستحباب؛ التي تشتمل على صفات الحُسن، وصفات الجودة؟ وما القانون الذي يمكن أن يضبط حدوده، ويبين لنا فلسفته؟ وما علاقة هذا القانون، بقانون الركوب والزينة، الذي تقدم شرحه في الدرس السابق؟
أما عن علاقة صفات العِتْق بصفات الحُسن والجودة؛ فهي مأخوذة منها لتكون علامة ودلالة على عروبة الفرس وأصالته، فالعرب -فيما أرى- قد انتخبت من صفات الحُسن والجودة بعض الصفات، وسمّتها صفات العِتق أو دلائل العِتق؛ لتحمي بها السلالة العربية من فساد الهُجنة. فصفة العِتق إذن من حيث الأصل، هي أما صفة حُسن أو صفة جودة أو صفة مشتركة بينهما، ثم خرجت عن هذا الأصل وخُتمت بخاتم العِتْق لتقوم بوظيفة حماية الجنس العربي من دخول الهُجنة عليه من الأجناس الأخرى؛ ويدل على ذلك قول أبي عبيدة: “تُستَحب أن تكون ناصية الفرس شديدة السواد، ويُستحب لينُها، ولين شكيرُها، وطمأنينة عصفورها… وذلك كله للحُسن، إلا لين ناصيته، ولين شكيرها، فإن ذلك مما يُستَدل به على عِتْقه”، وكذلك قول ابن هذيل: “فمن مُستَحسن أوصاف الأعضاء… رِقة أَرْنبته، وأرنبته ما بين منخريه، وذلك للحُسن ويُستدل به على العِتق”. فإذا استبان لنا هذا المعنى، وعرفنا علاقة صفات العِتق بصفات الحُسن والجودة، فإن القانون الذي يُبرز لنا فلفسة العِتق، ويُمَكِّننا من ملكة الفقه فيه، هو في تقديري يكمن في مخالفة صفات الجنس غير العربي من الخيل؛ وهذا يظهر بجلاء عندما نجد أن غالب صفات العِتق تدور على معنى اللِّين، وأن غالب صفات الهُجنة تدور على معنى الغِلَظ، كما قال أبو عبيدة: “يُستَدل على عِتْق الفرس برقة جَحَافله، وأرنبته… ورقة جفونه، وأعالي أذنيه وما ظهر منهما، ورقة سالفته، وأديمه، ولين أشْعَرَيْه، وشَعْر رُكبتيْه، وأبين من ذلك كله لين شكير ناصيته وعُرْفه”؛ فهنا نلحظ أن هذه الصفات كلها تدور على معنى اللِّين، فلماذا هيمن هذا المعنى على هذه الصفات إذن؟ لأنه باختصار يناقض المعنى الذي تدور عليه غالب صفات الأجناس الأخرى، ومنها على سبيل المثال: البراذين، كما قال أبو عبيدة: “والهُجنة غِلَظ الخَلْق في الخيل، كغِلَظ البراذين”. وبهذا نفهم أن روح قانون العِتق، تكمن في مخالفة صفات الجنس غير العربي، وأن العرب إنما بنوا صفات العِتق أو دلائله، على هذا المعنى، فلما رأوا أن الغِلَظ من أبين صفات الجنس غير العربي، جعلوا غالب صفات العِتق تدور على نقيضه وهو اللِّين. وهذا لا يعني أن صفات العِتق لا تدور إلاّ على هذا المعنى(اللِّين)، بل هي تدور على معانٍ أخرى ذكرتها مفصلة في الكتاب، مثل: الحجم، واللون، والصوت، والطبيعة. وسوف يبقى الباب مفتوحا أمام قانون العِتق، في استحداث المعاني التي يمكن أن تنشأ في زماننا ولم يعرفها القدماء.
ومن هذا المنظور نرى أن العِتق طارئ على أصل صفات الخيل العربية، التي كانت مقسومة -بناء على قانون الركوب والزينة- إلى مستحبات ومكروهات، ثم انقسمت المستحبات بعد ذلك إلى صفات حُسن وجودة ومشتركة بينهما، ثم انقسمت المكروهات إلى عيوب حادثة، وعيوب خَلْقية، ثم ظهرت بعد ذلك صفات العِتق من رحم صفات الحُسن والجودة كما تقدم. فالعِتق لم يظهر -في تقديري- إلا بعد أن انفتح العرب على الثقافات الأخرى -كالفارسية والرومية- واختلطت خيل تلك الثقافات بخيل العرب، وأصبح العرب محتاجين إلى وضع السياج الذي يحمي السلالة العربية من الفساد، فكان العِتق بمعناه اللغوي (القِدَم، والكَرَم)، وصفاته التي استحدثها العرب من صفات الحُسن والجودة + المحافظة على النَّسَب؛ هو السياج الذي يحفظ السلالة العربية من الفساد عبر ذلك التاريخ الطويل. وعلى هذا الاعتبار يكون العِتق هو البوابة التي يدخل منها الفرس العربي إلى دائرة الكمال في الصفات؛ ومن هنا يجب التفريق في صفات الخيل العربية بين دائرة الكمال(المستحبات)، وبين دائرة العِتق، فدائرة العِتق أقل في الرُّتبة من دائرة الكمال؛ فالحكم على الفرس بأنه عتيق لا يعني أنه كامل أو اقترب من الكمال، بل يعني -بالدرجة الأولى- أنه بَرِئ من الهُجنة، فقد نجد فرسين عتيقين وبينهما من الفروق في صفات الحُسن والجودة شيء كثير، والخلط بين هاتين الدائرتين، يؤدي إلى ارتباك كبير في فهم صفات الخيل العربية وعلاقتها بالأصالة.
ويبقى لنا في هذا الدرس أن نجيب على السؤال الأخير من الأسئلة السابقة، وهو عن علاقة قانون العِتق بقانون الركوب والزينة؟ فالعلاقة بينهما تدخل في دائرة العموم والخصوص من كلا الطرفين، فقانون الركوب والزينة عام في جميع أجناس الخيل، وقانون العِتق خاص بالجنس العربي، فيكون قانون العِتق من هذا الوجه محكومًا بقانون الركوب والزينة؛ لأن صفات العِتق تعود إلى الأقسام التي بُنيت على قانون الركوب والزينة كما تقدم. وأما من الوجه الآخر، فيكون قانون الركوب والزينة محكومًا بقانون العِتق؛ لأن قانون الركوب والزينة ترك للعرب في زمانهم صناعة مرجعية صفات الخيل العربية، وقانون العِتق هو أحد أفراد هذه المرجعية التي صنعها القدماء.
وإذا تبين لنا من خلال الدورس السابقة -(١، ٢، ٣)- قانون الركوب والزينة، وعلاقته بتقسيمات القدماء لصفات الخيل العربية، ومعنى العِتق، وقانونه، وعلاقته بقانون الركوب والزينة —إذا تبين لنا هذا كله، فإننا سنكون مهيئين لتناول صفات الخيل العربية بالتفصيل، لكنني أقولها بكل وضوح: إن التقصير في فهم تلك الدروس، سوف يجعل مسير القارئ مرتبكا كلما تقدمنا في تفاصيل الصفات، وربما لا ننجح معه في إزاحة الغموض والضبابية، التي يشعر بها غالب المهتمين بصفات الخيل العربية؛ وذلك أن هيكل هذا العلم إذا لم يتضح للسالك فيه، فيُفرق بين أصوله وفروعه، ويفهم فلسفة العِتق، وعلاقتها بدائرة الكمال في صفات الخيل العربية؛ فإنه لن يزداد بمعرفة التفاصيل إلاّ حيرة وارتباكا.
وقبل أن نشرع في تناول صفات الخيل العربية بالتفصيل، يحسُن أن أعرض أهم الضوابط والمصطلحات، التي اتخذتها منهجا في إعادة بناء مرجعية صفات الخيل العربية، وهذه الضوابط والمصطلحات سوف تكون محور درسنا القادم بإذن الله. (انتهى الدرس الثالث).
ملحوظة:
المقصود هنا عرض الدرس بلغة سهلة ومختصرة دون إثقاله بطريقة المعالجة والاستدلال، ولذلك فالدرس لا يغني عن الكتاب لمن أراد التوسع، علمًا أن الكتاب موجود في جميع فروع المكتبات التالية: جرير، العبيكان، الرشد.
أستاذي عبد الله القرشي
أنت حقا مبدع، أرى أن كلامك هذا علم وفتح من الله، فتحت فيه أبوابا أغلقت ووجهتنا من خلاله نحو الطريق الصحيح
قرأت هذا الدرس عدة مرات حتى ترسخ المعنى باذن الله
نحن مستمرون معك
أهلا أخي محمد
أولا اسمي عبد العزيز
ثانيا أشكر لك مرورك وتفاعلك مع الدرس وأسأل الله أن يجعل هذا العلم في موازين حسناتنا جميعا وأن تعم الفائدة به وبمثل تفاعلك سيستمر الدرس بإذن الله
كلنا عباد الله -_-
عذرا على الخطأ أستاذي عبد العزيز
أنا أنتظر الدروس بفارغ الصبر
الدروس تنشر كل أربعاء مساء
هل أنت تعيش في فلسطين؟
فتحي بن فرج البوعينين – الجبيل
من لا يشكر الناس لا يشكر الله
شكرا استاذ عبدالعزيز على توضيح اهم صفات الخيل العتيق مع التفريق بالشكل الخارجي من جواد الى جواد
مع جزيل شكري