في أواخر أكتوبر سنة 1860 م بلغ ملك فورتمبرغ بألمانيا خبرا بوفاة إلهامي باشا، ابن عباس باشا، وعن بيع خيوله بالمزاد العلني، وأرسل بنك مصر إعلانات وقوائم الخيول التي ستباع إلى عناوين مختلفة، علما بأن المزاد العلني كان قد عين موعده في العاشر من ديسمبر، فأرسل الملك رئيس مزرعته للخيول “فون هيغل” إلى مصر؛ ليشارك في المزاد، وبفضل إشعار بنك مصر الوارد في الوقت المناسب، أتيح لهواة الخيول العربية في أوربا إمكانية حضور المزاد العلني.
يقول فون هيغل في مذكراته: وصلت إلى العباسية قبل أسبوع من بداية المزاد، وكان لدي وقت كاف لاستطلاع الخيول في الإسطبلات، وليس بإمكان شيء أن يثير اهتمام الهاوي أكثر من منظر هذا الإسطبل، والذي كان محظورا على مثلي الدخول عليها عندما كان عباس باشا حيا، وكان يضم كافة ممثلي أنواع السلالة العربية. كانت الخيول مجموعة في ثماني قاعات محاطة بجدران عالية من الحجارة، ومقسمة إلى مقصورات بسيطة مغطاة لحماية الخيول من الشمس الحارة، ولكنها لم تكن تحجب السماء كلية، وهذا النوع من الحظائر كان مناسبا لمناخ مصر. وكانت شرفات قصر عباس باشا تطل على كل هذه الحظائر التي أعدها للخيل بعناية.
وقد خصص للبيع حوالي ثلاثين حصانا (أربعة عشر منها للاستيلاد)، ومائة وعشرة أفراس، ومائة وثمانين مهرا، وكان أكثر ما آثار الدهشة أفراس كحيلة نواق بما تتسم من طول وقوة، ولا تقل تكوينا عن أي حصان صيد إنجليزي. ويعترف “فون هيوغل” بأنه لم يكن يتوقع من قبل أن هناك خيولا عربية كبيرة بهذا القدر.
وقد عرض في المزاد العلني نماذج جيل صقلاوي جدران ودهمان الشهوان. وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك نماذج جيدة من صقلاوي مرادي، ودهمان أم عامر، وكحيلان نواق، وكحيلان وبيري، وهدبان، وربدان. وكانت أكثرية هذه الجياد بلون رمادي، ثم أشقر، وأخيرا كميت. وكانت هناك أيضا سلالات مجهولة، على سبيل المثال: شهران من الجنوب الغربي للحجاز؛ القريب من البحر الأحمر. وكانت فرسان من هذا النوع تتميزان بشكل أصيل وعمق السرج وقوائم قصيرة وبنية قوية، غير أنهما كانتا طويلتي الظهر قليلا، وحجم صغير للكفل مع وضعية عالية للذيل.
بدأ المزاد العلني عمله في الساعة العاشرة من صباح العاشر من ديسمبر، وترأس هيئة المزاد أدهم باشا؛ وزير المعارف السابق في عهد عباس باشا. وعلق برقبة كل جواد بطاقات كتبت عليها الأوصاف باللغة العربية. وخُصص مكان للأوروبيين على اليمين من الرئيس، ومكان على اليسار لمختلف ممثلي الشرق. وجرى المزاد العلني باللغتين العربية والإيطالية، علماً بأن الأسعار كانت تعلن من قبل ثلاثة سماسرة كانوا يتحركون بين صفوف المشترين. وحددت الأسعار بالجنيهات الإسترلينية، كثر في هذا المكان المزاح والفكاهة على الطريقة المصرية المعروفة، فلعب “البقشيش” دوره في بعض الصفقات.
استمر المزاد ثلاثة أسابيع، وقد بيع يوميا من الساعة العاشرة صباحا حتى الساعة الثالثة مساءً ما لا يزيد على خمس وعشرين إلى ثماني وعشرين رأسا. وفي اليوم الأول بيع عشرين جوادا بمبلغ خمس آلاف جنيه لكل منها، والتي عمرها سنتان بمائتين وخمسين جنيها، والأفراس التي عمرها عشرون سنة بمائة وعشرين وبمائتين وعشرين جنيها. وفي بعض الحالات كان البيع بثلاثمائة وسبعمائة جنيه لكل منها.
اشترى فون هيوغل خصيصا لمزرعة فيورتيمبرغ حصانين وثلاثة أفراس: قادر، سدحان، دهمه، ذويبه، ومرية. وحظي بتقدير خاص الحصان قادر (صقلاوي جدران) ودهمة (دهمة الشهوان)، وأثار نقلهما إلى أوروبا سخطًا شديدا بين السكان الأصليين (سكان القاهرة).
اشترى السكان الأصليون (سكان القاهرة) أكثرية الخيول، وأرسلت إلى المرابط الصغيرة في ضواحي القاهرة. وقيل إن شابا واحدا، وهو علي بك الشريف رئيس “ديوان التجارة” اقتنى حوالي أربعين رأسا. وبهذا المقدار أنقذت خيول عباس باشا من الانقراض، فربما تتوافر لها سبل التكاثر من جديد إذا ما وجدت لها الأيدي التي ترعاها، ويؤكد الرحالة الروسي دوختروف ما قاله الدكتور فون هيغل من أنه بيعت في هذا المزاد أربع خيول لا مثيل لها في العالم، أفضلها الحصان “قادر” الذي اشترى لصالح مزرعة فيورتيمبيرغ، عمره ست وعشرون سنة، واشترى الثاني لمزرعة تربية الخيل النمساوية، والثالث للسلطان العثماني، والرابع اشتراه الصيرفي المليونير أوبينغايم، والمجموعة التي أخذها علي بيه الشريف رئيس المحكمة التجارية في القاهرة، وكل هذه الخيول أصلها من الحصان قادر.
ويستكمل فون هيغل كلامه فيقول: “ولقد تسنى لي عندما كنت بالقاهرة في شتاء عام 1899م أن أتعرف على حسين بك الشريف، ابن علي باشا الشريف، ووفقًا لما قاله حسين بك، أن علي بك كان الوكيل (السمسار) الرئيس لعباس باشا في عمليات بيع وشراء الخيل”.
انتهى تقرير البارون الألماني، الذي شهد نهاية تاريخية لأعظم مربطً للخيول العربية، وكان البارون على حق عندما تنبأ بمستقبل الخيول التي بيعت، فالأمير على باشا الشريف حافظ على الخيول العباسية، وعمل على تكاثرها لمدة خمسة وثلاثين عاما ثانية.