في صبيحة يوم السابع عشر من رمضان سنة اثنين للهجرة؛ وقعت غزوة بدر الكبرى، التي تعتبر أول معركة في الإسلام جرت بين الحق والباطل، لذلك سماها الله تعالى في كتابه بـ(يوم الفرقان). وتعد من المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام، وكان لها أثر عظيم في إعلاء شأن الإسلام وإعزاز المسلمين.
من المعلوم أن قريشا كانت قد صادرت أموال المهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربصت للنيل منهم بكل وسيلة، إمعاناً في الصد عن سبيل الله وإيذاء المؤمنين. فأراد المهاجرون إضعافها والضغط عليها من خلال التعرض لقوافلها التجارية التي تمر بالقرب من المدينة في طريقها إلى الشام، وكان المسلمون قد علموا أن قافلة كبيرة يحرسها ثلاثون رجلا، كانت تحمل أموالاً عظيمة لقريش، في طريقها من الشام إلى مكة، وأنها ستمر بهم، فندب الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج لأخذها، فخرج ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، معهم سبعون بعيرا يتعاقبون على ركوبها. قال ابن هشام: كان مع المسلمين يوم بدر من الخيل، فرس مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وكان يقال له: السبل. وفرس المقداد بن عمرو البهراني، وكان يقال له بعزجة، ويقال سبحة. وفرس الزبير بن العوام، وكان يقال له اليعسوب.
لكن المسلمين أرادوا شيئا، وأراد الله غيره قال سبحانه وتعالى: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين). الأنفال:7.
بلغ أبا سفيان الذي كان يقود القافلة القرشية خبر خروج المسلمين, فسلك بها طريق الساحل، وأرسل يطلب النجدة ويستنفر قريش, فخرجت قريش بقضها وقضيضها، ولم يتخلف من فرسانها ورجالها إلا القليل, ومن تخلَّف منهم أرسل بدله رجلاً، حتى بلغ جيش قريش ألف مقاتل معهم مئتا فرس، تصحبهم القيان يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين. ولما بلغوا الجحفة علموا بنجاة القافلة, فأصروا على المضي ومقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بطراً ورئاء الناس فقال أبو جهل لعنه الله: “والله لا نرجع حتى نقدم بدْراً فنقيم بها ونطعم من حضرنا، وتخافنا العرب“.
وصل المسلمون إلى بدر وعلموا بنجاة القافلة وقدوم جيش المشركين، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه. فوقف المقداد بن عمرو من المهاجرين وقال: ” يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك, والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: “اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون”, ولكن؛ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد – مكان باليمن – لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه”، وقام سعد بن معاذ زعيم الأوس فقال: “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: أجل ، قال : فإنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق, وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك, فسِر على بركة الله”.
فحينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم اجتماعهم على القتال بدأ بتنظيم الجيش، فأعطى اللواء الأبيض مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سوداوين لعلي وسعد بن معاذ رضي الله عنهما، وترك المسلمون مياه بدر وراءهم لئلا يستفيد منها المشركون.
وقبيل المعركة، أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكان مصارع جماعة من زعماء قريش، فما تحرك أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى في هذه الليلة مطراً طهر به المؤمنين، وثبت به الأرض تحت أقدامهم، وجعله وبالاً شديدًا على المشركين.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته تلك، فكان يصلي إلى شجرة، فلم يزل يدعو ربه ويتضرع حتى أصبح، وكان من دعائه: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد بعدها في الأرض” فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: “يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك“.
وفي صباح يوم 17 رمضان سنة 2 للهجرة، رتب صلى الله عليه وسلم الجيش في صفوف كصفوف الصلاة، وبدأ القتال بين الفريقين بمبارزات فردية ثم كان الهجوم والتحام الصفوف، وأمد الله المسلمين بمدد من الملائكة قال تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم( الأنفال:9-10، ونصر الله رسوله والمؤمنين رغم قلة عددهم وعدتهم.
وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة نزول الملائكة من السماء تقاتل مع المسلمين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: “هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ، عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ”. فجبريل بنفسه نزل يشارك في الموقعة، وأتى وهو يمسك بلجام فرسه، والتراب يتصاعد من حول الفرس، ومن ورائه ألف من الملائكة ترفع سيوفها وعليها عدة الحرب.
وقد سمع الصحابة عن الملائكة من الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن منهم من سمع الملائكة بنفسه، أو رآهم رأي العين. روى مسلم عن ابن عباس: بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حَيْزُوم (اسم فرس من خيل الملائكة) إذ نظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقيًا. قال: فنظر إليه فإذا هو قد حُطِم وشُقَّ وجهه كضربة السوط، فاخضرَّ ذلك أجمعُ. فجاء الأنصاري فحدَّث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَة”. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يعلّمون ضربات الملائكة يوم بدر بأنها تترك أثرًا لونه أخضر على جسد الكافرين. وروى الإمام أحمد عن أبي داود المازني رضي الله عنه – وكان شهد بدرا- قال: “إني لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصلَ إليه سيفي، فعرفتُ أنه قد قتله غيري”. ويروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال جاء رجل من الأنصار قصيرٌ بالعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال العباس: يا رسول الله، إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق (بين السواد والبياض) ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله. فقال: “اسْكُتْ؛ فَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَلَكٍ كَرِيمٍ.
وكانت نتيجة المعركة مقتل عدد من زعماء المشركين منهم أبو جهل, وأمية بن خلف، والعاص بن هشام. وبلغ عدد قتلى المشركين يومئذ سبعين رجلا, وأسر منهم سبعون, وفر من تبقى من المشركين تاركين غنائم كثيرة في ميدان المعركة, وأقام النبي صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثة أيام، ودفن شهداء المسلمين فيها, وهم أربعة عشر شهيدا.