ألف رأس من خيل ذات أجنحة؛ أعجب بها نبي الله سليمان عليه السلام وبمنظرها حينما عرضت عليه، حتى شغلته عن الصلاة.. فردها إليه ومسح سوقها وأعناقها.. فهل كان هذا المسح عقرا أم تنظيفا وحبا..!؟
يقول الله جل في علاه: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ).
اختلف أهل العلم في تفسير قوله تعالى: ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ)؛ هل المراد بذلك أنه ضرب رقابها، وعرقب سوقها بالسيف، لما شغلته عن ذكر ربه، كما هو المشهور في تفسير الآية عن أهل العلم .أم المراد: أنه مسحها بيده؛ حبا لها ؟
قال القرطبي رحمه الله: “فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَقْبَلَ يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِيَدِهِ، إِكْرَامًا مِنْهُ لَهَا، وَلِيُرِيَ أَنَّ الْجَلِيلَ لَا يَقْبُحُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا بِخَيْلِهِ، وَقَالَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ: كَيْفَ يَقْتُلُهَا؛ وَفِي ذَلِكَ إِفْسَادُ الْمَالِ، وَمُعَاقَبَةُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ؟ وَقِيلَ: الْمَسْحُ ها هنا هُوَ الْقَطْعُ؛ أُذِنَ لَهُ فِي قَتْلِهَا.
وقَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: عَقَرَهَا بِالسَّيْفِ، قُرْبَةً لِلَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُعَاقَبَةً لِلْأَفْرَاسِ، إِذْ ذَبْحُ الْبَهَائِمِ جَائِزٌ إِذَا كَانَتْ مَأْكُولَةً، بَلْ عَاقَبَ نَفْسَهُ حَتَّى لَا تَشْغَلَهُ الْخَيْلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ، وَلَعَلَّهُ عَرْقَبَهَا لِيَذْبَحَهَا، فَحَبَسَهَا بِالْعَرْقَبَةِ عَنِ النِّفَارِ، ثُمَّ ذَبَحَهَا فِي الْحَالِ، لِيَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا فِي شَرْعِهِ، فَأَتْلَفَهَا لَمَّا شَغَلَتْهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، حَتَّى يَقْطَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَثَابَهُ بِأَنْ سَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ ” .
واختار القول الثاني ـ أنه مسحها بيده ، حبا لها ـ من المحققين: ابن جرير الطبري، رحمه الله، ونقله في تفسيره عن ابن عباس. قال: “وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية، لأن نبيّ الله عليه السلام لم يكن ـ إن شاء الله ـ ليعذب حيوانًا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها”.
وتعقبه ابن كثير رحمه الله، بأنه لا يلزمه من ضرب أعناقها بالسيف، أن يكون ذلك إفسادا محضا. فقال رحمه الله:” هَذَا الَّذِي رَجَّحَ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي شَرْعِهِمْ جَوَازُ مِثْلِ هَذَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ غَضَبًا لله عز وجل، بسبب أنه اشْتَغَلَ بِهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا خَرَجَ عَنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى عَوَّضَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَهِيَ الرِّيحُ الَّتِي تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ، فَهَذَا أَسْرَعُ وَخَيْرٌ مِنَ الْخَيْلِ .
وقد روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عن رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، قالُ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ، فجعل يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ: ( إِنَّكَ لَا تَدَعُ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعْطَاكَ اللَّهُ خيرا منه)
وانتصر لهذا القول بقوة أيضا الشوكاني في تفسيره، فقال رحمه الله : ” قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَسْحُ هُنَا الْقَطْعُ، قَالَ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَقْبَلَ يَضْرِبُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ سَبَبَ فَوْتِ صَلَاتِهِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يُبَاحَ ذلك لسليمان ويحظر فِي هَذَا الْوَقْتِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِالْمَسْحِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَسْحُ عَلَى سُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا لِكَشْفِ الْغُبَارِ عَنْهَا حُبًّا لَهَا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أولى بسياق الكلام، فإنه ذكر أنه آثرها عَلَى ذِكْرِ رَبِّهِ حَتَّى فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ لِيُعَاقِبَ نَفْسَهُ بِإِفْسَادِ مَا أَلْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَمَا صَدَّهُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَشَغَلَهُ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُنَاسِبُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ رَدِّهَا عَلَيْهِ هُوَ كَشْفُ الْغُبَارِ عَنْ سُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا بِيَدِهِ أَوْ بثوبه، ولا متمسك لمن قال: إن إفساد المال لا يصدر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإن هذا مجرّد استبعاد بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمُتَقَرِّرُ فِي شَرْعِنَا، مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي شَرْعِ سُلَيْمَانَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مُبَاحٌ .
عَلَى أَنَّ إِفْسَادَ الْمَالِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي شَرْعِنَا: إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ إِضَاعَتِهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، فَقَدْ جَازَ مِثْلُهُ فِي شَرْعِنَا، كَمَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ إِحْرَاقِ طَعَامِ الْمُحْتَكِرِ ” .
وهو أيضا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ قال: ” لَمَّا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ بِسَبَبِ الْخَيْلِ، طَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ، فَعَقَرَهَا كَفَّارَةً لِمَا صَنَعَ” واختاره أيضا تلميذه ابن القيم، رحمه الله، كما في (مدارج السالكين) والسعدي في تفسيره، وابن عثيمين، وحكاه عن أكثر المفسرين. وحكى ابن الجوزي الخلاف فيه على ثلاثة أقوال، قال: “والمفسِّرون على القول الأول” ، أي: أنه قطع أعناقها وسوقها بالذبح.
نختم بدرر من كلام خير البشر عليه أفضل الصلاة والسلام، والذي يبين أن خيل سيدنا سليمان عليه السلام كانت جميلة جدا، لدرجة انه قد صنعت على أشكالها دمى تسر الناظرين؛ ففي حديث صحيح الإسناد أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: “ما هذا يا عائشة؟” قالت: بناتي. ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع فقال: ” ما هذا الذي أرى وسطهن؟ ” قالت: فرس. قال: “وما هذا الذي عليه؟ ” قالت: جناحان قال: ” فرس له جناحان؟! ” قالت: أما سمعت أن لسليمان خيل لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه.
جزاكم الله على هذا المقال الرائع..
الذي ميل إليه أنه مسحها حباً وكرامة لها، وأنك تلاحظ أيضاً في سباقات القدرة أن تبريد الخيل بعد الجري والركض يكون بتبريد الرقبة والسيقان لذلك مسح نبي الله سليمان على أعناق خيله وسيقانها.
ثم قوله كما ذكر الله في القرآن {ردوها عليَّ} المقصود بها الخيل وليس الشمس لأنه لما أركضها ذهبت بعيدا عنه حتى حجبها عن رؤيته لها حاجب من جبل أو غير، وعندي تساؤل.. هل الأنبياء الذين سبقونا يصلون صلواتهم في أوقات خمسة كما نحن المسلمون نفعل.
مع التحية
مشكور جدا على مرورك أخي خالد الجاسم، وعلى الإطراء.
وعذرا على التأخير في الرد..
كما ورد في المقال فإن أهل العلم قد اختلفوا في معنى المسح على السوق والأعناق، هل هو القتل أم الإعجاب؟. ولعلك ضممت صوتك إلى من قالوا إن المسح كان إكراما وحبا وإعجابا…
وها أنت ذا تضرب مثلا بسباقات القدرة عندما يكون تبريد الخيل بعد الجري والركض في الرقبة والسيقان..
أما عن تساؤلك عن كيفية صلاة الأنبياء السابقين؛ فإن جمهور العلماء يرون أنها كانت صلاة تشبه صلاتنا من حيث الجملة، وإن كنا نجهل تفاصيل ذلك، وإلى أي مدى كانت هذه المشابهة، وقد كانت صلاة ذات ركوع وسجود .
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
كيف كانت صلاة الأنبياء قبل الإسلام؟
فأجاب: ” صلاة الأنبياء الله أعلم بها، نحن مأمورون بالصلاة التي أمرنا بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نصلي كما صلى عليه الصلاة والسلام ، يقول صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ”
ولك التحايا