إن موضوع سلالات الخيل العربية وأصالتها لازال يسيل كثيرا من المداد وسط المهتمين وعشاق الخيل العربية بمقاربة موضوعية أحيانا وعاطفية أحيانا أخرى. والحالتان تتقاطعان في كون الاهتمام بالجواد العربي كان ولازال متوهجا ومتجددا، وفي هذا يكمن سر تميزه والمكانة التي يحظى بها في موروثنا العربي الإسلامي بل والكوني.
وقد تابعت النقاش الدائر في موضوع أصالة الخيول البولندية على صفحات موقع الأصالة ولبيت الدعوة للمساهمة بوجهة نظر في الحوار القائم لقناعتي الراسخة بأن مثل هذا الفضاءات أساسية للتنوير وتعديل وتصحيح مفاهيمنا في شؤون متنوعة ذات الصلة بالخيل العربية.
بداية أعتقد أن المنهجية التي يستحب أن يتناول بها موضوع أصالة سلالات الخيل العربية بصفة عامة والخيول البولندية على وجه الخصوص ما دامت موضوع نقاشنا اليوم ترتكز على مسلكين يتقاطعان أحيانا ويتوازيان أحيانا أخرى.
أما المسلك الأول فهو يعتمد فقط على السرد والشواهد والوثائق التاريخية ذات المصداقية من حيث المصدر. وأما المسلك الثاني فهو يرتكز على المنهجية العلمية المحضة (علوم الوراثة الجينية) التي تعتمد استنتاجاتها على التحاليل المعملية والتي قد تفند أو تزكي استنتاجات المسلك الأول.
وبالعودة إلى موضوع الخيول العربية البولندية، فإن المراجع تؤرخ بأن تربيتها تعود إلى القرن السابع عشر وهناك مجموعة من الإسطبلات الشهيرة التي كانت في ملكية الأمراء والدوقات ساهمت كثيرا في تطوير إنتاج الخيول العربية مثل مزرعة سلاووتا (Slawuta Stud) (١٥٠٦-١٩١٨) ومزرعة بيالا سيركي Biala Cerkiew Stud ( ١٧٢٨-١٩١٨) ومزرعة أونتوني( Antoniny Stud) ١٨٨٣- ١٩٢٠. وقد كان للرحلات والبعثات البولندية التي قصدت منطقة الشرق العربي (شبه الجزيرة خصوصا منطقة نجد وبلاد مابين النهرين، الشام، العراق…) للبحث عن أفراس وفحول لتجويد نسل إنتاج المزارع البولندية الأثر الكبير، ونذكر منها رحلة الدوق جفوسكي الشهيرة ( ١٨١٩-١٨١٧) والتي أفضت إلي استقدام ١٣٧ فرس و٦ فحول أصيلة من الشرق ، ثم رحلة الدوق جوليوز دزيدوتسكي (١٨٤٥) الذي استقدم ثلاث من الأفراس المشهورة إلي اليوم وهي غزالة، ميلكشا وصحاري.
ومما لا شك فيه أن إنتاج كل الخيول العربية الأصيلة المستوردة من الجزيرة العربية قد اكتسب مواصفات جديدة منسجمة مع المحيط وعناصر البيئة المختلفة عن مناخ وظروف البيئة الصحراوية التي أنشئت داخلها في موطنها الأصلي، بالإضافة إلى تأثير برامج التوليد والانتقاء المعتمدة ببولندا المغايرة للنمط المتبع عند البدو في صحراء الجزيرة العربية. وتلكم سنن طبيعية مثبتة علميا حيث أن عوامل “المحيط” تؤثر في المواصفات الخارجية وحتى الموروث الجيني للخيول.
ومن حيث الشق المرتبط بتوثيق المعطيات ذات الصلة بتعريف الخيول وبيانات النزو والأنساب فإن بولندا تعتبر من الدول السباقة في المجال بنظام محكم تسهر عليه المرابط الحكومية للحفاظ على الإنتاج والأنساب. وقد ثم إصدار أول سجل أنساب للخيول العربية البولندية سنة ١٩٢٦ وتمت مراجعته سنة ١٩٣٢.
وفي بداية القرن العشرين تأثرت تربية الخيول عامة ببولندا والعربية على وجه الخصوص بكل الحروب والأزمات السياسية التي عرفتها المنطقة حيث تعرض الإنتاج عند كل أزمة للضياع والسرقة أو الإتلاف. وبعد الحرب العالمية الثانية، حصلت عملية ترميم شاملة أعادت تأسيس قاعدة للإنتاج من خلال ما تبقى من الأمهات والفحول من طرف المرابط الوطنية، كما تم إرساء برنامج جديد للتربية والانتقاء اهتم بالأساس على مقومات “الجمال” وإنتاج خيول سليمة وقوية البنية والحركة، ومن ثم كانت الانطلاقة الحقيقية التي أوصلت الخيول البولندية إلى المكانة التي تحظى بها اليوم.
وفي بداية السبعينيات من القرن الماضي، طفى على السطح موضوع أصالة الخيول ونقاوة دمها بشكل واسع دوليا عند إنشاء المنظمة العالمية للخيول العربية (الواهو) والشروع في اعتماد سجلات أنساب الخيول العربية للدول الأعضاء. وهنا تجدر الإشارة على أن بولندا تعتبر من الدول المؤسسة للواهو وتم اعتماد سجل أنسابها منذ سنة ١٩٧٣ بدون أي تحفظ .
وإذا سلمنا أن أصالة أي سلالة من الخيول العربية هي مقرونة بالضرورة بانتسابها للخيول العربية الأصيلة (العتيقة) المنحدرة من الجزيرة العربية شريطة أن يكون هذا الانتساب مثبت وموثق في سجلات دقيقة ومعتمدة أو معلل بحجج ذات مصداقية، فبالرجوع للعمل الذي قام به الدكتور إيدوارد [1](Dr Edward Shorkowki) سنة ١٩٦٠ والذي استطاع أن يحدد كل الأفراس والفحول المؤسسة لسلالة الخيول البولندية والتي نلخصها في الرسمين البيانيين المرفقين، فإننا نستنتج أن كل الفحول المؤسسة للخيول البولندية (رسم رقم١) ترجع أصولها إلي الخيول العربية الجزيرية وبالتالي فإنها تعتد أصيلة. أما بالنسبة للأفراس، فإنه يتضح أن هناك مجموعتين من الخيول (رسم رقم٢ ) : المجموعة الأولى متكونة من الأفراس المؤكد انتسابها إلى الخيول العربية الجزيرية وبالتالي فإنها تعد كذلك أصيلةحسب المسلك الأول . وهناك مجموعة ثانية تضم بعض أفراس من عائلات أصولها لم يتم تحديد انتسابها للخيول العربية الجزيرية. لكن بالرجوع إلي البحوِث العلمية التي نشرت في مجال العلوم الوراثية و التي اهتمت بدراسة مقارنة بين عائلات الخيول البولندية وأصالتها [2] أو الدراسة التي المقارنة بين الخيول العربية البولندية بما فيها (خيول المجموعة الثانية) ومجموعة من خيول عربية من الجزيرة والخيول المصرية السلالة[3,4] يستنتج منها تقارب واضح بين كل عائلات الخيول العربية البولندية وتسجيل تقارب جيتي بين الخيول البولندية والخيول الجزيرية وبالتالي فالأرجح انتسابها لنفس الأصول وبالتالي أصالتها.
وهنا لابد من إضافة معطى آخر أساسي في علوم الإنتاج الحيواني بصفة عامة، فكل برامج الانتقاء داخل مجموعة مغلقة من نفس السلالة من الحيوانات وفي غياب أي تهجين (والخيل ليس استثناء) يفضي إلى تركيز المواصفات التي يتم انتقائها في برامج التوليد داخل هذه السلالة بعد بضعة أجيال من الانتفاء (خمسة إلى ثمانية بالنسبة للخيول). وبالتالي فالخيول البولندية بصفة عامة وبغض النظر عن العائلات التي تنتمي إليها تخضع منذ أربعينيات القرن الماضي لنموذج انتقائي مركز مكنها من اكتساب مواصفات “للجمال” وسلامة البنية والقوة في الحركة مما يساهم في تبرير خصوصية مواصفاتها اليوم.
وأعتقد شخصيا بأن موضوع أصالة الخيول العربية من الجانب الرسمي لم يعد محطة نقاش بعد إغلاق سجل أنساب الخيول العربية للواهو منذ سنة ٢٠٠٤ . لكن من وجهة نظر البحث والفضول العلمي، فموضوع نقاوة دماء الخيول العربية وتصنيف السلالات وربط المواصفات أو مؤهلات الاستعمال بالمخزون الجيني للخيول على شاكلة ما هو مستعمل بالنسبة لأصناف من حيوانات أخرى، سيظل ذو أهمية وحتمي في الأفق المنظور باعتبار التطور السريع والملفت لعلوم الوراثة الجينية والجينومية. وستمكن هذه الوسائل العلمية من التعريف الدقيق بخصوصيات كل سلالات الخيول العربية وسيصبح الاعتماد على الانتقاء “الجينومي” عوض التركيز فقط على نمط الانتقاء التقليدي مسلكا أساسيا للرفع من مستوى جودة الإنتاج ومردوديته في مختلف الاستعمالات بل وضمان سلامة صحية للخيول العربية. وسيكون الرهان كل الرهان مستقبلا على نجاعة استخدام هذه الوسائل العلمية من طرف المربين للحفاظ على معالم الجواد العربي في كل تجلياتها.
- Skorkowski : Polish genealogical tables of pur-bred Arab Horse. Inst. Zoot. Kracow (1960)
- Iwona Glazewska : A new view on dam lines in Polish Arabian horses based on mtDNA analysis. Genet. Sel. (2007)
- Khanshour : Maternal phylogenetic relationships and genetic variation among Arabian horse populations using whole mitochondrial DNA D-loop sequencing. BMC Genetics (2013).
- Machmoum : Genetic Diversity and Population Structure of Arabian Horse Populations Using Microsatellite Markers . J. Equine Vet.Sci. (2020)