العنوان وحده كفيل بتبيين مدى عظمة هذه الكائنات دون غيرها، فقد دنت ملائكة الله العظام من مخلوق مكرم جدا. حدث ذلك حين اختار الله سبحانه وتعالى واحدا من خيله ليكون حاضرا لمشهد من أعظم المشاهد، اختار الله لذلك المشهد فرس من دون سائر الحيوان، ففي ليلة مباركة من الليالي كانت الملائكة قاب قوسين أو أدنى من فرس، نعم فرس، وثق لها التاريخ لحظات لم يوثقها لحيوان غيرها، لأنها كانت تبيت بجنب مالكيها، شأنها شأن الإبن. تكريم من الله بحضور الملائكة، وتكريم من البشر بصحبة في الليل والنهار..
فعن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير قال بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس فسكت وسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها فأشفق أن تصيبه فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير اقرأ يا ابن حضير، قال فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها. قال وتدري ما ذاك، قال لا، قال تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم .
ولشرح ما سبق؛ فقد كان الصَّحابةُ رضِي اللهُ عنهم يَتْلُونَ كتابَ اللهِ آناءَ اللَّيلِ وأطرافَ النَّهارِ، ومِن ذلك ما ذَكَره أَسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ رضِي اللهُ عنه في هذا الحديثِ، قال: بينما هو يَقرأُ مِنَ الليلِ سورةَ البقرةِ، وفرسُه مربوطٌ عنده إذْ جالتِ الفرسُ، أي: اضطرَبَتِ اضطرابًا شديدًا، فسكَتَ عَنِ القراءةِ فَسكَنَتِ الفرسُ عَنِ الاضطرابِ، وتَكرَّرَ ذلك منها كُلَّما استمَرَّ في القراءةِ، فَانصرفَ أُسَيْدٌ رضِي اللهُ عنه مِنَ الصَّلاةِ أو مِنَ القِراءةِ، وكانَ ابنُه يَحيى في ذلك الوقتِ قريبًا مِنَ الفَرَسِ فخافَ أُسَيْدٌ رضِي اللهُ عنه أنْ تُصِيبَ ابنَه يَحيَى، فَأَبعدَه مِنَ المكانِ الذي هو فيه حتَّى لا يُصيبَه الفَرسُ، فَرَفعَ رأسَه إلى السَّماءِ حتَّى ما يراها، فلمَّا أَصبَحَ أُسَيْدٌ رضِي اللهُ عنه حدَّثَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، فقالَ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: “اقْرأْ يا ابنَ حُضَيْرٍ، اقْرأْ يا ابنَ حُضَيْرٍ” مرَّتين، وليس أمْرًا بِالقراءةِ، بِلِ المعْنى: كان يَنْبَغِي لك أن تستَمِرَّ على قِراءتِك وتغْتنِمَ ما حصَل َلك مِنْ نزولِ السَّكينةِ والملائكةِ وتَستكثرَ مِنَ القِراءةِ التي هي سببُ بَقائِها. وقيل: معناه تحضيضٌ وطلبٌ للاستزادةِ في الزمانِ الماضي، أي: هلَّا زِدْتَ، وكأنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استحضرَ تلكَ الحالةَ العجيبةَ الشأنِ، فأمرَهُ تحريضًا عليه، فقال أَسَيدٌ رضِي اللهُ عنه: فَأشْفقْتُ يا رسولَ اللهِ إنْ دُمْتُ على القراءةِ أنْ تطأَ الفَرَسُ ابني يحيى وكان قريبًا مِنَ الفَرَسِ، فَرفعتُ رأسي إلى السَّماءِ “فإذا مثلُ الظُّلَّةِ”؛ قيل: هي السَّحابةُ التي كانتْ فيها الملائكةُ ومعها السَّكينة، فقال له عليه الصَّلاةُ والسَّلام: “وتدْرِي ما ذاك؟ قال: لا. قال: تلك الملائكةُ دَنَتْ” أي: قَرُبَتْ لِصوتِك، وكانَ أسيدٌ رضِي اللهُ عنه حسنَ الصوتِ. “ولو قَرَأْتَ”، أي: ولو دُمتَ على قِراءتكَ لأصبحَتِ الملائكةُ يَنظرُ الناسُ إليها لا تَتَوارى، أي: لا تَستِترُ منهم. وفي الحديث: فَضيلةُ قِراءةِ القرآنِ وأنَّها سببُ نُزولِ الرحمةِ وحضورِ الملائكةِ. وفيه: مَنْقَبَةٌ لأُسَيْدِ بنِ حُضَيرٍ رضِي اللهُ عنه، وفَضْلُ قراءةِ سورةِ البَقرةِ في صلاةِ الليلِ، وفضلُ الخشوعِ في الصَّلاةِ.