لاهرامات والنيل وجياد ترقص على أنغام المزمار، وفارس يرتدي الجلباب الصعيدي، جميعها مفردات لوحة فولكلورية نابضة بالفرح والأصالة المصرية، يتناثر حولها سياح العالم بملابسهم الملونة، وهم يرتدون قبعات قشية من صنع قرية كرداسة، إحدى القرى المصرية في منطقة »نزلة السمان«. مشهد رائع وحفنة من مياه النيل يضيفان بهجة مميزة، تتصاعد ويتيرتها مع مشاهد الجياد الراقصة في لوحة وقصة تشويق فريد.
رقص الخيول على الطبول والمزمار ليس فقط من المشاهد السياحية الجاذبة لسياح العالم، وإنما هي تاريخ لفولكلور مصري أصيل، خاصة في صعيد مصر وريفها، وأفراحها الشعبية داخل الخيام الملونة.
دلالة الرجولة والحزم في صعيد مصر وريفها أن يمتطي العريس يوم زفافه ظهر الحصان المزين بالزهور والخيوط الملونة والخرز الأزرق الطارد لعين الحسود، وخلخال فضي يطوق أرجل الحصان، هذا المشهد يستعرض العريس وأقاربه، ليقدموا رقص الخيول وسط المشاعل والتحطيب والأعيرة النارية فرحاً وابتهاجاً بليلة الزفاف، والعروس والنسوة من أقاربها يطلون من الساحة المقاربة يرقصن ويزغردن وينثرن الملح وماء الورد وسط الغناء الشعبي المصري، جميعها مشاهد ينفرد بها صعيد مصر وريفها في الأعراس والطهور ومناسبات الفرح، كالموالد والأعياد، وانتخابات «العمدة» وكبير الضاحية، هكذا يسمونه هناك، في «الصعيد الجواني».
هكذا يكون الفرح في المناسبات المختلفة في البعيد، ولكن يسبق الفرح ومشاهد الرقص بالخيول والتحطيب على ظهر الحصان، المعروف باسم «البرجاس»، مشوار طويل لتعلم مهارة التحكم في الحصان، وكيفية توجيهه الذي يسبقه أيضاً تعلم الحصان نفسه فنون الرقص على المزمار الصعيدي والريفي، وهي مهارات متوارثة أباً عن جد يتعلمها الشباب.
يبدأ الاستعراض سواء أكان سياحياً أو مظهراً من مظاهر الأعراس الصعيدية والريفية في مصر بتحية مشتركة فيما بين الفارس والحصان، حيث يرفع الفارس يده ملوحاً بأحلى تحية للحضور والحصان يرفع إحدى أرجله عن الأرض مع تلويحة بعنقه الطويل المميز كحصان عربي أصيل، ويبدأ الرقص وسط حشد من المتفرجين يشكلون دائرة واسعة.
ومشهد الفارس الممسك بالسيف فوق الحصان أيقونة تعكس فكراً فنياً خاصاً جداً بصعيد مصر وريفها منذ أقدم العصور، يرتبط ذلك بالتراث المصري القديم، وبالملاحم الشعبية في أدب الملاحم المصرية، مثل ملحمة أبي زيد الهلالي، والزناتي خليفة وغيرهما الكثير من أبطال الملاحم الشعبية المصرية التي تعكس نوعاً مميزاً من الأدب المصري الضارب في عمق التاريخ.
تغرد الحصان العربي
ويأتي رقص الخيول على أنغام المزمار والطبول في المرتبة الأولى، فيما يعرف بأدب الخيول العربية الأصيلة، التي لديها الاستعداد لتعلم فن الإيقاع والرقص بأشكاله المختلفة، وهناك أشياء كثيرة تؤدي إلى نجاح الحصان العربي لتعلم هذه المهارات، أهمها تكوينه ومرونته الجسدية وذكائه الفطري وخضوعه للتدريب، واستعداده السريع للتكيف مع النغم والإيقاع معاً الذي يأخذ أشكالاً متعددة مثل طرق استخدام الأرجل والعنق والذيل، والتحرك بإيقاع منتظم مرتبط بخلفية الموسيقى الصاعدة من المزمار، وهنا تدخل الأذن في الربط بين الإيقاع والحركة معاً.
وهناك أنواع متعددة من الإيقاعات الراقصة التي يؤديها الحصان والذي يتبع كذلك إيحاءات الفارس، منها التشكيلات المتعددة والمتنوعة وهي «المربع والتعليقة والأجواز والشرلستون»، ويؤدي الحصان حركة المربع من وضع الثبات إلى تحرك القدم اليمنى الأمامية مع القدم اليسرى الخلفية مع التبادل بالعكس، أما حركة التعليقة، فهي من الحركات الصعبة والمركبة.
حيث يثني الحصان الساق اليمنى الأمامية إلى صدره ويقفز في مكانه بقدميه الخلفيتين عدداً من المرات بمهارة عالية على إيقاع نغم المزمار بسرعة منتظمة الإيقاع، أما إيقاع الأرجواز، ففيها يجمع الحصان بين حركات النوعين الأولين بمهارة فائقة يتطلب أثناء التدريب طاعة المدرب وتبادل المودة بينهما.
وهي أولى خطوات الطاعة، أما إيقاع الشرلستون فإن الحصان يقوم بحركة التقليعة من الأمام، ثم تطويع القدمين الخلفيتين للجانبين بحركات إيقاعية منتظمة.ولتطويع الخيول لهذه الرقصات في البداية جنباً إلى جنب مع تدريبها على المرونة والطاعة، لا تستخدم موسيقى ونغم المزمار فقط بل تستخدم عصا رفيعة خفيفة بضربة حانية منها تروض الخيول على هذه الأنواع من الإيقاعات تدريجيا.
ترويض.. أدب
أدب الخيول هو ما يعرف الترويض، وتقام مسابقات في أدب الخيول العربية الأصيلة وتسمى في صعيد مصر باسم «الفروسية الشعبية»، حيث تقوم الخيول بالرقص على أنغام المزمار البلدي المصري، وهناك حركات ثابتة بين الفارس والحصان، منها السلام على الحضور.
حيث يقوم الحصان بالسلام عن طريق رفع قدمه في الوقت الذي يلوح الفارس بيده للأعلى، ويبدأ الرقص والاستعراض على نغمات المزمار المصري البلدي، ثم القيام بحركات متعددة تنتهي بالجلوس على الأرض أو الصعود فوق «طبلية» خشبية، ثم يقوم ملوحاً بعنقه يساراً ويميناً، ثم ينتهي الاستعراض بإعطاء الحصان قطع من سكر النبات أو الجزر مع الحنو على عنقه ومقدمة وجهه.
ورقص الخيول مقصور على الخيول العربية الأصيلة التي تشتهر برشاقتها ومرونة قدمها وذكائها ونسبة تكيفها مع الفارس، وسرعة تآلفها وحبها له، بالإضافة لتفردها بخصائص جمالية حكراً عليها وحدها، مثل قدمها الممشوقة وقوة عضلاتها ومرونتها وبريق عيونها وجمال وجهها، وطول شعر عنقها وذيلها المرفوع كنوع من جمالياتها، ويرجع كل ذلك لمئات السنين من العناية بالخيول العربية في مصر والجزيرة العربية وفلسطين، فنتج عن الاهتمام الفائق هذا سلالات متفردة ومن هنا كان ارتفاع ثمنها.
في السينما المصرية؟
ارتبط العديد من الأفلام التي تصور أحداثها في صعيد مصر وريفها بمشاهد متعددة من رقص الخيول من أهمها فيلم «من فضلك اعطني هذا الدواء» بطولة نور الشريف ونبيلة عبيد، يعكس مشهد رقص الخيول في الأقصر بصعيد مصر وقد فاز الفيلم بجائزة مهرجان قرطاج لقصته المستوحاة من مؤلفه إحسان عبدالقدوس تحمل الاسم نفسه.
وفيلم «إجازة نصف السنة» لفرقة رضا وماجدة الصباحي، حيث صورت معظم مشاهده في الأقصر ومنها مشهد رقص الخيول على إيقاع الأغنية الشهيرة لمحمد العزبي «الأقصر بلدنا.. بلد سواح.. فيها الأجانب تتفسح ولما يجي وقت المرواح تبقى مش عايزة تراوح».. وإيقاع أقدام الخيل مع المزمار والموسيقى لوحة سمعية في حد ذاتها. وفيلم «الباشا تلميذ» بطولة كريم عبدالعزيز وغادة عادل وحسن حسني ومها أحمد، يعكس مشهداً من مشاهد رقص الخيول.
في الفن التشكيلي؟
يعكس معرض فاروق وجدي حوارية رائعة مع الرقص المصري بأبعاده الفولكلورية الشعبية في معرضه الذي أقيم في العام 2007 في قاعة قرطبة للفن التشكيلي بالقاهرة تحت عنوان «الرقص في بر مصر» يعكس المعرض 21 لوحة عن الرقص الشعبي المصري منها رقص الخيول على إيقاع المزمار البلدي ورقصة الحجالة النابعة من الصعيد المصري أيضاً، وذلك انعكاس طبيعي للإرث الشعبي المصري في فن الرقص الفولكلوري. كما اعتنى بابلو بيكاسو لرسم مشاهد الخيول وحركتها بدقة مثل لوحته «فتى يقود حصاناً»
أيضاً تأثر المسرح المصري بمشاهد تعكس رقص الخيول، والتي من أهمها مسرحية «الحصان» لانتصار عبدالفتاح في أوبرا القاهرة، أما الدراما العربية فهي مليئة بمشاهد الجياد العربية الراقصة منها والمحاربة أثناء مشاهد الحروب العربية القديمة، ويعكس مسلسل «الحجاج» مشهداً للممثل العراقي جواد الشكرجي على جواده تعكس الجياد العربية الأصيلة.
أما السينما العالمية فلها انعكاسات للجياد أشهرها مشهد للممثلة ليلى سوبسيكي على جوادها في فيلم «جان دارك» وهو من مشاهد القمة في الفيلم.
وتُعتبر مهرجانات رقص الخيول العربية من الاستعراضات التي تجذب سياح العالم، من أشهرها مهرجان «بلبيس» بمصر الذي يعرض سنوياً رقصات الخيول العربية الأصيلة.